سورة مريم - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)}
القراءة فيها مسائل:
المسألة الأولى: قرئ {وَهَنَ} بالحركات الثلاث.
المسألة الثانية: إدغام السين في الشين (من الرأس شيباً) عن أبي عمرو.
المسألة الثالثة: {وَإِنّي خِفْتُ الموالى} بفتح الياء وعن الزهري بإسكان الياء من الموالي وقرأ عثمان وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وسعيد بن جبير وزيد بن ثابت وابن عباس خفت بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر التاء وهذا يدل على معنيين: أحدهما: أن يكون ورائي بمعنى بعدي والمعنى أنهم قلوا وعجزوا عن إقامة الدين بعده فسأل ربه تقويتهم بولي يرزقه.
والثاني: أن يكون بمعنى قدامي والمعنى أنهم خفوا قدامه ودرجوا ولم يبق من به تقو واعتضاد.
المسألة الرابعة: القراءة المعروفة: {مِن وَرَائِى} بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة وعن حميد بن مقسم كذلك لكن بفتح الياء وقرأ ابن كثير {وراي} كعصاي.
المسألة الخامسة: من يرثني ويرث وجوه:
أحدها: القراءة المعروفة بالرفع فيهما صفة.
وثانيها: وهي قراءة أبي عمرو والكسائي والزهري والأعمش وطلحة بالجزم فيهما جواباً للدعاء.
وثالثها: عن علي ابن أبي طالب وابن عباس وجعفر بن محمد والحسن وقتادة: {يَرِثُنِى} جزم وارث بوزن فاعل.
ورابعها: عن ابن عباس: {يَرِثُنِى} وارث من آل يعقوب.
وخامسها: عن الجحدري {وَيَرِثُ} تصغير وارث على وزن أفيعل (اللغة) الوهن ضعف القوة قال في الكشاف شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه كل مأخذ كاشتعال النار ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا فمن ثم فصحت هذه الجملة، وأما الدعاء فطلب الفعل ومقابله الإجابة كما أن مقابل الأمر الطاعة، وأما أصل التركيب في (ولي) فيدل على معنى القرب والدنو يقال وليته أليه ولياً أي دنوت وأوليته أدنيته منه وتباعد ما بعده وولي ومنه قول ساعدة (ابن جؤبة):
وعدت عواد دون وليك تشغب ***
وكل مما يليك وجلست مما يليه ومنه الولي وهو المطر الذي يلي الوسمي، والولية البرذعة لأنها تلي ظهر الدابة وولي اليتيم والقتيل وولي البلد لأن من تولى أمراً فقد قرب منه، وقوله تعالى: {فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144، 149، 150] من قولهم ولاه بركنه أي جعله مما يليه، أما ولي عني إذا أدبر فهو من باب تثقيل الحشو للسلب وقولهم فلان أولى من فلان أي أحق أفعل التفضيل من الوالي أو الولي كالأدنى والأقرب من الداني والقريب وفيه معنى القرب أيضاً لأن من كان أحق بالشيء كان أقرب إليه والمولى اسم لموضع الولي كالمرمى والمبني اسم لموضع والمرمي والبناء، وأما العاقر فهي التي لا تلد والعقر في اللغة الجرح ومنه أخذ العاقر لأنه نقص أصل الخلقة وعقرت الفرس بالسيف إذا ضربت قوائمه، وأما الآل فهم خاصة الرجل الذين يؤول أمرهم إليه ثم قد يؤول أمرهم إليه للقرابة تارة وللصحبة أخرى كآل فرعون وللموافقة في الدين كآل النبي صلى الله عليه وسلم واعلم أن زكرياء عليه السلام قدم على السؤال أموراً ثلاثة: أحدها: كونه ضعيفاً.
والثاني: أن الله تعالى ما رد دعاءه ألبتة.
والثالث: كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين ثم بعد تقرير هذه الأمور الثلاثة صرح بالسؤال.
أما المقام الأول: وهو كونه ضعيفاً فأثر الضعف، إما أن يظهر في الباطن أو في الظاهر، والضعف الذي يظهر في الباطن يكون أقوى مما يظهر في الظاهر فلهذا السبب ابتدأ ببيان الضعف الذي في الباطن وهو قوله: {وَهَنَ العظم مِنّى} وتقريره هو أن العظام أصلب الأعضاء التي في البدن وجعلت كذلك لمنفعتين: إحداهما: لأن تكون أساساً وعمداً يعتمد عليها سائر الأعضاء الأخر إذ كانت الأعضاء كلها موضوعة على العظام والحامل يجب أن يكون أقوى من المحمول.
والثانية: أنه احتيج إليها في بعض المواضع لأن تكون جنة يقوى بها ما سواها من الأعضاء بمنزلة قحف الرأس وعظام الصدر، وما كان كذلك فيجب أن يكون صلباً ليكون صبوراً على ملاقاة الآفات بعيداً من القبول لها إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان العظم أصلب الأعضاء فمتى وصل الأمر إلى ضعفها كان ضعف ما عداها مع رخاوتها أولى، ولأن العظم إذا كان حاملاً لسائر الأعضاء كان تطرق الضعف إلى الحامل موجباً لتطرقه إلى المحمول فلهذا السبب خص العظم بالوهن من بين سائر الأعضاء وأما أثر الضعف في الظاهر فذلك استيلاء الشيب على الرأس فثبت أن هذا الكلام يدل على استيلاء الضعف على الباطن والظاهر وذلك مما يزيد الدعاء توكيداً لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته والتبري عن الأسباب الظاهرة.
المقام الثاني: أنه ما كان مردود الدعاء ألبتة ووجه التوسل به من وجهين:
أحدهما: ما روي أن محتاجاً سأل واحداً من الأكابر وقال: أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا، فقال: مرحباً بمن توسل بنا إلينا ثم قضى حاجته. وذلك أنه إذا قبله أولا فلو أنه رده ثانياً لكان الرد محبطاً للأنعام الأول والمنعم لا يسعى في إحباط أنعامه.
والثاني: وهو أن مخالفة العادة شاقة على النفس فإذا تعود الإنسان إجابة الدعاء فلو صار مردوداً بعد ذلك لكان في غاية المشقة ولأن الجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشق فقال زكرياء عليه السلام إنك ما رددتني في أول الأمر مع أني ما تعودت لطفك وكنت قوي البدن قوي القلب فلو رددتني الآن بعد ما عودتني القبول مع نهاية ضعفي لكان ذلك بالغاً إلى الغاية القصوى في ألم القلب، واعلم أن العرب تقول سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي بها إذا خاب ولم ينلها ومعنى بدعائك أي بدعائي إياك فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى.
المقام الثالث: بيان كون المطلوب منتفعاً به في الدين وهو قوله: {وَإِنّي خِفْتُ الموالى مِن وَرَائِى} وفيه أبحاث: الأول: قال ابن عباس والحسن: إني خفت الموالي أي الورثة من بعدي وعن مجاهد العصبة وعن أبي صالح الكلالة وعن الأصم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب وعن أبي مسلم المولي يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو هاهنا من يقوم بميراثه مقام الولد، والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين فقد كانت العادة جارية أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب فإنه كان متعيناً في الحياة.
الثاني: اختلفوا في خوفه من الموالي فقال بعضهم: خافهم على إفساد الدين، وقال بعضهم بل خاف أن ينتهي أمره إليهم بعد موته في مال وغيره مع أنه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام بذلك المنصب، وفيه قول ثالث وهو أنه يحتمل أن يكون الله تعالى قد اعلمه أنه لم يبق من أنبياء بني إسرائيل نبي له أب إلا واحد فخاف أن يكون ذلك من بني عمه إذ لم يكن له ولد فسأل الله تعالى أن يهب له ولداً يكون هو ذلك النبي، وذلك يقتضي أن يكون خائفاً من أمر يهتم بمثله الأنبياء وإن لم يدل على تفصيل ذلك. ولا يمتنع أن زكرياء كان إليه مع النبوة السياسة من جهة الملك وما يتصل بالإمامة فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما.
أما قوله: {وَإِنّي خِفْتُ} فهو وإن خرج على لفظ الماضي لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً، كذلك يقول الرجل قد خفت أن يكون كذا وخشيت أن يكون كذا أي أنا خائف لا يريد أنه قد زال الخوف عنه وهكذا قوله: {وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا} أي أنها عاقر في الحال وذلك لأن العاقر لا تحول ولوداً في العادة ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلام بتقادم العهد في ذلك وغرض زكرياء من هذا الكلام بيان استبعاد حصول الولد فكان إيراده بلفظ الماضي أقوى وإلى هذا يرجع الأمر في قوله: وإني خفت الموالي من ورائي لأنه إنما قصد به الإخبار وعن تقادم الخوف ثم استغنى بدلالة الحال وما يوجب مسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال وأيضاً فقد يوضع الماضي مكان المستقبل وبالعكس قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أأنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] والله أعلم وأما قوله: {من ورائي} ففيه قولان: الأول: قال أبو عبيدة أي قدامي وبين يدي وقال آخرون أي بعد موتي وكلاهما محتمل فإن قيل كيف خافهم من بعده وكيف علم أنهم يبقون بعده فضلاً من أن يخاف شرهم؟ قلنا: إن ذلك قد يعرف بالأمارات والظن وذلك كاف في حصول الخوف فربما عرف ببعض الإمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد والشر واختلف في تفسير قوله: {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} فالأكثرون على أنه طلب الولد وقال آخرون بل طلب من يقوم مقامه ولداً كان أو غيره والأقرب هو الأول لثلاثة أوجه.
الأول: قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عنه: {قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً} [آل عمران: 38].
والثاني: قوله في هذه السورة: {هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ}.
والثالث: قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً} [الأنبياء: 89] وهذا يدل على أنه سأل الولد لأنه قد أخبر في سورة مريم أن له موالي وأنه غير منفرد عن الورثة وهذا وإن أمكن حمله على وارث يصلح أن يقوم مقامه لكن حمله على الولد أظهر واحتج أصحاب القول الثالث بأنه لما بشر بالولد استعظم على سبيل التعجب فقال أنى يكون لي غلام ولو كان دعاؤه لأجل الولد لما استعظم ذلك.
الجواب: أنه عليه السلام سأل عما يوهب له أيوهب له وهو وامرأته على هيئتهما أو يوهب بأن يحولا شابين يكون لمثلهما ولد؟ وهذا يحكي عن الحسن وقال غيره إن قول زكرياء عليه السلام في الدعاء: {وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا} إنما هو على معنى مسألته ولداً من غيرها أو منها بأن يصلحها الله للولد فكأنه عليه السلام قال إني أيست أن يكون لي منها ولد فهب لي من لدنك ولياً كيف شئت إما بأن تصلحها فيكون الولد منها أو بأن تهب لي من غيرها فلما بشر بالغلام سأل أيرزق منها أو من غيرها فأخبر بأنه يرزق منها واختلفوا في المراد بالميراث على وجوه:
أحدها: أن المراد بالميراث في الموضعين هو وراثة المال وهذا قول ابن عباس والحسن والضحاك.
وثانيها: أن المراد به في الموضعين وراثة النبوة وهو قول أبي صالح.
وثالثها: يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوة وهو قول السدي ومجاهد والشعبي وروي أيضاً عن ابن عباس والحسن والضحاك.
ورابعها: يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوة وهو مروي عن مجاهد واعلم أن هذه الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة وهي المال ومنصب الحبورة والعلم والنبوة والسيرة الحسنة ولفظ الإرث مستعمل في كلها أما في المال فلقوله تعالى: {أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم وَأَمولَهُمْ} [الأحزاب: 27] وأما في العلم فلقوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الهدى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب} [غافر: 53] وقال عليه السلام: «العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم» وقال تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ وسليمان عِلْماً وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين * وَوَرِثَ سليمان دَاوُودُ} [النمل: 15، 16] وهذا يحتمل وراثة الملك ووراثة النبوة وقد يقال أورثني هذا غماً وحزناً، وقد ثبت أن اللفظ محتمل لتلك الوجوه.
واحتج من حمل اللفظ على وراثة المال بالخبر والمعقول أما الخبر فقوله عليه السلام: «رحم الله زكريا ما كان له من يرثه» وظاهره يدل على أن المراد إرث المال وأما المعقول فمن وجهين:
الأول: أن العلم والسيرة والنبوة لا تورث بل لا تحصل إلا بالاكتساب فوجب حمله على المال.
الثاني: أنه قال: {واجعله رَبّ رَضِيّاً} ولو كان المراد من الإرث إرث النبوة لكان قد سأل جعل النبي صلى الله عليه وسلم رضياً وهو غير جائز لأن النبي لا يكون إلا رضياً معصوماً، وأما قوله عليه السلام: «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» فهذا لا يمنع أن يكون خاصاً به واحتج من حمله على العلم أو المنصب والنبوة بما علم من حال الأنبياء أن اهتمامهم لا يشتد بأمر المال كما يشتد بأمر الدين، وقيل لعله أوتي من الدنيا ما كان عظيم النفع في الدين فلهذا كان مهتماً به أما قوله النبوة كيف تورث قلنا المال إنما يقال ورثه الابن بمعنى قام فيه مقام أبيه وحصل له من فائدة التصرف فيه ما حصل لأبيه وإلا فملك المال من قبل الله لا من قبل المورث فكذلك إذا كان المعلوم في الإبن أن يصير نبياً بعده فيقوم بأمر الدين بعده جاز أن يقال ورثه أما قوله عليه السلام: «إنا معشر الأنبياء» فهذا وإن جاز حمله على الواحد كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9] لكنه مجاز وحقيقته الجمع والعدول عن الحقيقة من غير موجب لا يجوز لا سيما وقد روي قوله: إنا معاشر الأنبياء لا نورث والأولى أن يحمل ذلك على كل ما فيه نفع وصلاح في الدين وذلك يتناول النبوة والعلم والسيرة الحسنة والمنصب النافع في الدين والمال الصالح، فإن كل هذه الأمور مما يجوز توفر الدواعي على بقائها ليكون ذلك النفع دائماً مستمراً.
السابع: اتفق أكثر المفسرين على أن يعقوب هاهنا هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام لأن زوجة زكرياء هي أخت مريم وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب وأما زكرياء عليه السلام فهو من ولد هرون أخى موسى عليه السلام وهرون وموسى عليهما السلام من ولد لاوى بن يعقوب بن إسحاق وكانت النبوة في سبط يعقوب لأنه هو إسرائيل صلى الله عليه وسلم وقال بعض المفسرين ليس المراد من يعقوب هاهنا ولد إسحاق بن إبراهيم عليه السلام بل يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكرياء وهذا قول الكلبي ومقاتل.
وقال الكلبي كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا رأس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده حبورته ويرث من بني ماثان ملكهم، واعلم أنهم ذكروا في تفسير الرضى وجوهاً:
أحدها: أن المراد واجعله رضياً من الأنبياء وذلك لأن كلهم مرضيون فالرضي منهم مفضل على جملتهم فائق لهم في كثير من أمورهم فاستجاب الله تعالى له ذلك فوهب له سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين لم يعص ولم يهم بمعصية، وهذا غاية ما يكون به المرء رضياً.
وثانيها: المراد بالرضي أن يكون رضياً في أمته لا يتلقى بالتكذيب ولا يواجه بالرد.
وثالثها: المراد بالرضي أن لا يكون متهماً في شيء ولا يوجد فيه مطعن ولا ينسب إليه شيء من المعاصي.
ورابعها: أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قالا في الدعاء: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 182] وكانا في ذلك الوقت مسلمين، وكأن المراد هناك ثبتنا على هذا أو المراد اجعلنا فاضلين من أنبيائك المسلمين فكذا هاهنا واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأفعال بهذه الآية لأنه إنما يكون رضياً بفعله، فلما سأل الله تعالى جعله رضياً دل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى.
فإن قيل: المراد منه أن يلطف له بضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضياً فينسب ذلك إلى الله تعالى.
والجواب من وجهين:
الأول: أن جعله رضياً لو حملناه على جعل الألطاف وعندها يصير المرء باختياره رضياً لكان ذلك مجازاً وهو خلاف الأصل.
والثاني: أن جعل تلك الألطاف واجبة على الله تعالى لا يجوز الإخلال به وما كان واجباً لا يجوز طلبه بالدعاء والتضرع.


{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في من المنادي بقوله: يا زكريا، فالأكثرون على أنه هو الله تعالى وذلك لأن ما قبل هذه الآية يدل على أن زكريا عليه السلام إنما كان يخاطب الله تعالى ويسأله وهو قوله: {رَبّ إِنّى وَهَنَ العظم مِنّي} [مريم: 4] وقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً} [مريم: 4] وقوله: {فَهَبْ لِي} [مريم: 5] وما بعدها يدل على أنه كان يخاطب الله تعالى وهو يقول: {رَبّ أنى يَكُونُ لِي غلام} [آل عمران: 40] وإذا كان ما قبل هذه الآية وما بعدها خطاباً مع الله تعالى وجب أن يكون النداء من الله تعالى وإلا لفسد النظم، ومنهم من قال هذا نداء الملك واحتج عليه بوجهين:
الأول: قوله تعالى في سورة آل عمران: {فَنَادَتْهُ الملئكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِي المحراب أَنَّ الله يُبَشّرُكَ بيحيى} [آل عمران: 39].
الثاني: أن زكريا عليه السلام لما قال: {أنى يَكُونُ لِي غلام وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً * قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ} [مريم: 8، 9] وهذا لا يجوز أن يكون كلام الله فوجب أن يكون كلام الملك.
والجواب عن الأول: أنه يحتمل أن يقال حصل النداءان نداء الله ونداء الملائكة.
وعن الثاني: أنا نبين إن شاء تعالى أن قوله: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ} يمكن أن يكون كلام الله.
المسألة الثانية: فإن قيل إن كان الدعاء بإذن فما معنى البشارة، وإن كان بغير إذن فلماذا أقدم عليه؟ والجواب هذا أمر يخصه فيجوز أن يسأل بغير إذن، ويحتمل أنه أذن له فيه ولم يعلم وقته فبشر به.
المسألة الثالثة: اختلف المفسرون في قوله: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} على وجهين:
أحدهما: وهو قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة أنه لم يسم أحد قبله بهذا الاسم.
الثاني: أن المراد بالسمي النظير كما في قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] واختلفوا في ذلك على وجوه:
أحدها: أنه سيد وحصور لم يعص ولم يهم بمعصية كأنه جواب لقوله: {واجعله رَبّ رَضِيّاً} [مريم: 6] فقيل له إنا نبشرك بغلام لم نجعل له من قبل شبيهاً في الدين، ومن كان هكذا فهو في غاية الرضا.
وهذا الوجه ضعيف لأنه يقتضي تفضيله على الأنبياء الذين كانوا قبله كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وذلك باطل بالإتفاق.
وثانيها: أن كل الناس إنما يسميهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود، وأما يحيى عليه السلام فإن الله تعالى هو الذي سماه قبل دخوله في الوجود فكان ذلك من خواصه فلم يكن له مثل وشبيه في هذه الخاصية.
وثالثها: أنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر، واعلم أن الوجه الأول أولى وذلك لأن حمل السمي على النظير وإن كان يفيد المدح والتعظيم ولكنه عدول عن الحقيقة من غير ضرورة وإنه لا يجوز، وأما قول الله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} فهناك إنما عدلنا عن الظاهر لأنه قال: {فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] ومعلوم أن مجرد كونه تعالى مسمى بذلك الاسم لا يقتضي وجوب عبادته، فلهذه العلة عدلنا عن الظاهرة، أما هاهنا لا ضرورة في العدول عن الظاهر فوجب اجراؤه عليه ولأن في تفرده بذلك الاسم ضرباً من التعظيم لأنا نشاهد أن الملك إذا كان له لقب مشهور فإن حاشيته لا يتلقبون به بل يتركونه تعظيماً له فكذلك هاهنا.
المسألة الرابعة: في أنه عليه السلام سمي بيحيى روى الثعلبي فيه وجوهاً:
أحدها: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أحيا به عقر أمه.
وثانيها: عن قتادة أن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة والله تعالى سمى المطيع حياً والعاصي ميتاً بقوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} [الأنعام: 122] وقال: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يحييكم} [الأنفال: 24].
وثالثها: إحياؤه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية لما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد إلا وقد عصى أو هم إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها».
ورابعها: عن أبي القاسم بن حبيب أنه استشهد وأن الشهداء أحياء عند ربهم لقوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ} [آل عمران: 169].
وخامسها: ما قاله عمرو بن عبد الله المقدسي: أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن قل ليسارة، وكان اسمها كذلك، بأني مخرج منها عبداً لا يهم بمعصية اسمه حيي. فقال: هبي له من اسمك حرفاً فوهبته حرفاً من اسمها فصار يحيى وكان اسمها يسارة فصار اسمها سارة.
وسادسها: أن يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى فصار قلبه حياً بذلك الإيمان وذلك أن أم يحيى كانت حاملاً به فاستقبلتها مريم وقد حملت بعيسى فقالت لها أم يحيى: يا مريم أحامل أنت؟ فقالت: لماذا تقولين؟ فقالت: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك.
وسابعها: أن الدين يحيا به لأنه إنما سأله زكريا لأجل الدين، واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة لأن أسماء الألقاب لا يطلب فيها وجه الإشتقاق، ولهذا قال أهل التحقيق أسماء الألقاب قائمة مقام الإشارات وهي لا تفيد في المسمى صفة ألبتة.


{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي عتياً وصلياً وجثياً وبكياً بكسر العين والصاد والجيم والباء، وقرأ حفص عن عاصم بكياً بالضم والباقي بالكسر والباقون جميعاً بالضم، وقرأ ابن مسعود بفتح العين والصاد من عتياً وصلياً.
وقرأ أبي بن كعب وابن عباس عسياً بالسين غير المعجمة، والله أعلم.
المسألة الثانية: في الألفاظ وهي ثلاثة: الأول: الغلام الإنسان الذكر في ابتداء شهوته للجماع ومنه اغتلم إذا اشتدت شهوته للجماع ثم يستعمل في التلميذ يقال: غلام ثعلب.
الثاني: العتي والعبسي واحد تقول عتا يعتو عتواً وعتياً فهو عات وعسا يعسو عسواً وعسياً فهو عاص والعاسي هو الذي غيره طول الزمان إلى حال البؤس وليل عات طويل وقيل شديد الظلمة.
الثالث: لم يقل عاقرة لأن ما كان على فاعل من صفة المؤنث مما لم يكن للمذكر فإنه لا تدخل فيه الهاء نحو امرأة عاقر وحائض قال الخليل: هذه الصفات مذكرة وصف بها المؤنث كما وصفوا المذكر بالمؤنث حين قالوا: رجل ملحة وربعة وغلام نفعة.
المسألة الثالثة: في هذه الآية سؤالان: الأول: أن زكريا عليه السلام لم تعجب بقوله: {أنى يَكُونُ لِي غلام} مع أنه هو الذي طلب الغلام؟ السؤال الثاني: أن قوله أنى يكون لي غلام لم يكن هذا مذكوراً بين أمته لأنه كان يخفي هذه الأمور عن أمته فدل على أنه ذكره في نفسه، وهذا التعجب يدل على كونه شاكاً في قدرة الله تعالى على ذلك وذلك كفر وهو غير جائز على الأنبياء عليهم السلام.
والجواب عن السؤال الأول: أما على قول من قال إنه لم يطلب خصوص الولد فالسؤال زائل، وأما على قول من قال إنه طلب الولد فالجواب عنه أن المقصود من قوله: {أنى يَكُونُ لِي غلام} هو التعجب من أنه تعالى يجعلهما شابين ثم يرزقهما الولد أو يتركهما شيخين ويرزقهما الولد مع الشيخوخة بطريق الاستعلام لا بطريق التعجب، والدليل عليه قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين * فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 89، 90] وما هذا الإصلاح إلا أنه أعاد قوة الولادة وقد تقدم تقرير هذا الكلام، وذكر السدي في الجواب وجهاً آخر فقال: إنه لما سمع النداء بالبشارة جاءه الشيطان فقال: إن هذا الصوت ليس من الله تعالى بل هو من الشيطان يسخر منك، فلما شك زكريا قال: {أنى يَكُونُ لِي غلام} واعلم أن غرض السدي من هذا أن زكريا عليه السلام لو علم أن المبشر بذلك هو الله تعالى لما جاز له أن يقول ذلك فارتكب هذا، وقال بعض المتكلمين هذا باطل قطعاً إذ لو جوز الأنبياء في بعض ما يرد عن الله تعالى أنه من الشيطان لجوزوا في سائره ولزالت الثقة عنهم في الوحي وعنا فيما يوردونه إلينا ويمكن أن يجاب عنه بأن هذا الاحتمال قائم في أول الأمر وإنما يزول بالمعجزة فلعل المعجزة لم تكن حاصلة في هذه الصورة فحصل الشك فيها دون ما عداها، والله أعلم، والجواب عن السؤال الثاني من وجوه:
الأول: أن قوله: {إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى} [مريم: 7] ليس نصاً في كون ذلك الغلام ولداً له بل يحتمل أن زكريا عليه السلام راعى الأدب ولم يقل هذا الكلام هل يكون لي ولد أم لا، بل ذكر أسباب تعذر حصول الولد في العادة حتى أن تلك البشارة إن كانت بالولد فالله تعالى يزيل الإبهام ويجعل الكلام صريحاً فلما ذكر ذلك صرح الله تعالى بكون ذلك الولد منه فكان الغرض من كلام زكريا هذا لا أنه كان شاكاً في قدرة الله تعالى عليه.
الثاني: أنه ما ذكر ذلك للشك لكن على وجه التعظيم لقدرته وهذا كالرجل الذي يرى صاحبه قد وهب الكثير الخطير فيقول أنى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملككا تعظيماً وتعجباً.
الثالث: أن من شأن من بشر بما يتمناه أن يتولد له فرط السرور به عند أول ما يرد علي استثبات ذلك الكلام إما لأن شدة فرحه به توجب ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت باسحق قالت: {أألد وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هذا لَشَئ عَجِيبٌ} [هود: 72] فأزيل تعجبها بقوله: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 73] وإما طلباً للالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى، وإما مبالغة في تأكيد التفسير.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8